فصل: ذكر قسمة غنائم حنين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر غزوة خالد بن الوليد بني جذيمة:

وفي هذه السنة كانت غزوة خالد بن الوليد بني جذيمة، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد بعث السرايا بعد الفتح فيما حول مكة يدعون الناس إلى الإسلام ولم يأمرهم بقتال، وكان ممن بعث خالد بن الوليد، بعثه داعياً ولم يبعثه مقاتلاً، فنزل على الغميصاء من مياه جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، وكانت جذيمة أصابت في الجاهلية عوف بن عبد عوف أبا عبد الرحمن بن عوف، والفاكه بن المغيرة عم خالد، كانا أقبلا تاجرين من اليمن، فأخذت ما معهما وقتلتهما، فلما نزل خالد ذلك الماء أخذ بنو جذيمة السلاح، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا. فوضعوا السلاح، فأمر خالد بهم فكتفوا ثم عرضهم على السيف فقتل منهم من قتل.
فلما انتهى الخبر إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، رفع يديه إلى السماء ثم قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد! ثم أرسل علياً ومعه مال وأمره أن ينظر في أمرهم، فودى لهم الدماء والأموال حتى إنه ليدي ميلغة الكلب، وبقي معه من المال فضله، فقال لهم علي: هل بقي لكم مال أو دم لم يود؟ قالوا: لا. قال: فإني أعطيكم هذه البقية احتياطاً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، ففعل. ثم رجع إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: أصبت وأحسنت.
وقيل: إن خالداً اعتذر وقال إن عبد الله بن حذافة السهمي أمره بذلك عن رسول الله، وكان بين عبد الرحمن بن عوف وخالد كلام في ذلك، فقال له: عملت بأمر الجاهلية في الإسلام. فقال خالد: إنما ثأرت بأبيك. فقال عبد الرحمن: كذبت، قد قتلت أنا قاتل أبي ولكنك إنما ثأرت بعمك الفاكه، حتى كان بينهما شر، فبلغ ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: مهلاً يا خالد، دع عنك أصحابي، فوالله لو كان لك أحدٌ ذهباً ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة أحدهم ولا روحته.
قال عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي: كنت يومئذٍ في جند خالد فأثرنا في أثر ظعن مصعدة يسوق بهن فتية، فقال: أدركوا أولئك. قال: فخرجنا في أثرهم حتى أدركناهم مضوا، ووقف لنا غلام شاب على الطريق، فلما انتهينا إليه جعل يقاتلنا ويقول:
ارفعن أطراف الذيول وارتعن

مشي حييّاتٍ كأن لم تفزعن

إن تمنع اليوم النّساء تمنعن

فقاتلناه طويلاً فقتلناه ومضينا حتى لحقنا الظعن، فخرج إلينا غلام كأنه الأول فجعل يقاتلنا ويقول:
أقسم ما إن خادرٌ ذو لبده ** يروم بين أثلةٍ ووهده

يفرس شبّان الرّجال وحده ** بأصدق الغداة مني نجده

فقاتلناه حتى قتلناه، وأدركنا الظعن فأخذناهن، فإذا فيهن غلام وضيء الوجه به صفرة كالمنهوك، فربطناه بحبل وقدمناه لنقتله، فقال لنا: هل لكم في خير؟ قلنا: ما هو؟ قال: تدركون بي الظعن في أسفل الوادي ثم تقتلوني. قلنا: نفعل، فعارضنا الظعن، فلما كان بحيث يسمعن الصوت نادى بأعلى صوته: اسلمي حبيش، على فقد العيش. فأقبلت إليه جارية بيضاء حسانة وقالت: وأنت فاسلم على كثرة الأعداء، وشدة البلاء. قال: سلام عليك دهراً، وإن بقيت عصراً. قالت: وأنت سلام عليك عشرا، وشفعاً تترى، وثلاثاً وترا. فقال:
إن يقتلوني يا حبيش فلم يدع ** هواك لهم مني سوى غلّة الصدر

فأنت التي أخليت لحمي من دمي ** وعظمي، وأسبلت الدموع على نحري

فقالت له:
ونحن بكينا من فراقك مرّةً ** وأخرى وواسيناك في العسر واليسر

وأنت فلم تبعد فنعم فتى الهوى ** جميل العفاف والمودّة في ستر

فقال لها:
أريتك إذ طالبتكم فوجدتكم ** بحلية أو ألفيتكم بالخوانق

ألم يك حقّاً أن ينوّل عاشقٌ ** تكلّف إدلاج السّرى في الودائق

فلا ذنب لي قد قلت إذ نحن جيرةٌ ** أثيبي بودٍّ قبل إحدى الصّفائق

أثيبي بودٍّ قبل أن تشحط النّوى ** وينأى الأمير بالحبيب المفارق

فإني لا آبه بالذي ادعيته ** ولا منظرٌ مذ غبت عني برائق

على أنّ ما ناب العشيرة شاغلٌ ** ولا ذكر إلاّ أن يكون لوامق

فقدموه فضربوا عنقه. هذا الشعر لعبد الله بن علقمة الكناني، وكان من جذيمة مع حبيشة بنت حبيش الكنانية أنه خرج مع أمه، وهو غلام، نحو المحتلم لتزور جارة لها، وكان لها ابنة اسمها حبيشة بنت حبيش. فلما رآها عبد الله هويها ووقعت في نفسه، وأقامت أمه عند جارتها، وعاد عبد الله إلى أهله. ثم عاد ليأخذ أمه بعد يومين، فوجد حبيشة قد تزينت لأمر كان في الحي، فازداد بها عجباً، وانصرفت أمه، فمشى معها وهو يقول:
وما أدري، بلى إنّي لأدري ** أصوب القطر أحسن أم حبيش

حبيشة والذي خلق البرايا ** وما إن عندنا للصّبّ عيش

فسمعت أمه فتغافلت عنه. ثم إنه رأى ظبياً على ربوةٍ فقال:
يا أمّنا خبّريني غير كاذبةٍ ** وما يريد سؤول الحقّ بالكذب

أتلك أحسن أم ظبيٌ برابيةٍ ** لا بل حبيشة في عيني وفي أربي

فزجرته أمه وقالت: ما أنت وهذا؟ وأنا زوجتك ابنة عمك فهي من أجل تلك النساء. وأتت امرأة عمير فأخبرتها الخبر وقالت: زيني ابنتك له، ففعلت وأدخلتها عليه، فأطرق. فقالت أمه: أيهما الآن أحسن؟ فقال:
إذا غيّبت عني حبيشة مرّةً ** من الدّهر لا أملك عزاء ولا صبرا

كأنّ الحشا حرّ السّعير تحسّه ** وقود الغضا والقلب مضطرمٌ جمرا

وجعل يراسل الجارية وتراسله، فعلقته كما عقلها، وأكثر قول الشعر فيها، فمن ذلك:
حبيّشةٌ جدّي وجدّك جامعٌ ** بشملكم شملي وأهلكم أهلي

وهل أنا ملتفّ بثوبك مرّةً ** بصحراء بين الألبتين إلى النّحل

فلما علم أهلها خبرهما حجبوها عنه، فازداد غرامه. فقالوا لها: عديه السرحة، فإذا أتاك فقولي له: نشدتك الله أحببتني فوالله ما على الأرض أبغض إلي منك، ونحن قريب نسمع ما تقولين، فوعدته وجلسوا قريباً، فأقبل لموعدٍ لها. فلما دنا منها دمعت عيناها والتفتت إلى جنب أهلها وهم جلوس فعرف أنهم قريب وبلغه الحال فقال:
فإن قلت ما قالوا لقد زدتني جوًى ** على أنّه لم يبق سرٌّ ولا ستر

ولم يك حتى عن فواك بذلته ** فيسلبني عنك التّجنّب والهجر

وما أنس ملأشياء أنس ومقها ** ونظرتها حتى يغيّبني القبر

وبعث النبي، صلى الله عليه وسلم، إثر ذلك خالد بن الوليد، فكان منه ما تقدم ذكره.
وفي هذه السنة تزوج النبي، صلى الله عليه وسلم، مليكة ابنة داود الليثية، وكان أبوها قتل يوم فتح مكة، فجاء إليها بعض أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، فقلن لها: ألا تستحين تزوجين رجلاً قتل أباك؟ فاستعاذت منه، ففارقها.
وفيها هدم خالد بن الوليد العزى ببطن نخلة لخمس ليال بقين من رمضان، وكان هذا البيت تعظه قريش وكنانة ومضر كلها، وكان سدنتها بنو شيبان ابن سليم حلفاء بني هاشم، فلما سمع صاحبها بمسير خالد بن الوليد إليها علق عليها سيفه وقال:
أبا عزّ شدّي شدّةً لا شوى لها ** على خالدٍ ألقي القناع وشمّري

فلما انتهى خالد إليها جعل السادن يقول: أعزى بعض غضباتك، فخرجت امرأة سوداء حبشية عريانة مولولة، فتقها وكسر الصنم وهدم البيت ثم رجع إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبره فقال: تلك العزى لا تعبد أبداً.
وفيها هدم عمرو بن العاص سواع، وكان برهاط لهذيل، فلما كسر الصنم أسلم سادنه، ولم يجد في خزانته شيئاً.
وفيها هدم سعد بن زيد الأشهلي مناة بالمشلل.

.ذكر غزوة هوازن بحنين:

وكانت في شوال، وسببها أنه لما سمعت هوازن بما فتح الله على رسوله من مكة جمعها مالكبن عوف النصري من بني نصر بن معاوية بن بكر، وكانوا مشفقين من أن يغزوهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعد فتح مكة، وقالوا: لا مانع لهمن غزونا، والرأي أن نغزوه قبل أن يغزونا. واجتمع إليه ثقيف يقودها قارب بن الأسود بن مسعود سيد الأحلاف، وذو الخمار سبيع بن الحارث، وأخوه الأحمر بن الحارث سيد بني مالك، ولم يحضرها من قيس عيلان إلا نصر وجشم وسعد بن كر وناس من بني هلال، ولم يحضرها كعب ولا كلاب، وفي جشم دريد بن الصمة شيخ كبير ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه، وكان شيخاً مجرباً.
فلما أجمع مالك بن عوف المسير إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حط مع الناس أموالهم ونساءهم، فلما نزلوا أوطاس جمع الناس، وفيهم دريد بن الصمة، فقال دريد: بأي وادس أنتم؟ فقالوا: بأوطاس. قال: نعم مجال الخيل لا حزنٌ ضرسٌ، ولا سهلٌ دهسٌ؛ ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، ويعار الشاء وبكاء الصغير؟ قالوا: ساق مالك مع الناس ذلك. فقال: يا مالك إن هذا يوم له ما بعده، ما حملك على ما صنعت؟ قال: سقتهم مع الناس ليقاتل كل إنسان عن حريمه وماله. قال دريد: راعي ضأنٍ والله، هل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعل إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. وقال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها أحد منهم. قال: غاب الجد والحد، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب ولا كلاب، ووددت أنكم فعلتم ما فعلا. ثم قال: يا مالك ارفع من معك إلى عليا بلادهم ثم الق الصباء على الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك كنت قد أحرزت أهلك ومالك. قال مالك: والله لا أفعل ذلك، إنك قد كبرت وكبر علمك، والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكين على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر. فقال دريد: هذا يوم لم أشهده لوم يفتني. ثم قال مالك: أيها الناس إذا رأيتم القوم فاكسروا جفون سيوفكم وشدوا عليهم شدة رجل واحد.
وبعث مالك عيونه ليأتوه بالخبر، فرجعوا إليه وقد تفرقت أوصالهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالاً بيضاً على خيل بلق، فوالله ما تماسكنا أن حل بنا ما ترى! فلم ينهه ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد.
ولما بلغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خبر هوازن أجمع المسير إليهم، وبلغه أن عند صفوان بن أمية أدراعاً وسلاحاً، فأرسل إليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ مشرك: أعرنا سلاحك نلق فيه عدونا. فقال له صفوان: أغصباً يا محمد؟ فقال: بل عاريةً مضمونةً نؤديها إليك. قال: ليس بهذا بأس، فأعطاه مائة درع بما يصلحها من السلاح. ثم سار النبي، صلى الله عليه وسلم، ومعه ألفان من مسلمة الفتح مع عشرة آلاف من أصحابه، فكانوا اثني عشر ألفاً، فلما رأى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كثرة من معه قال: لن نغلب اليوم من قلة، وذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً} التوبة: 25؛ وقيل: إنما قالها رجل من بكر.
واستعمل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على من بمكة عتاب بن أسيد. قال جابر: فلما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في وادٍ أجوف حطوط، إنما ننحدر فيه انحداراً في عماية الصبح وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي فكمنوا لنا في شعابه ومضايقه، قد تهيأوا وأعدوا، فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدت علينا شدة رجل واحد، فانهزم الناس أجمعون لا يلوي أحد على أحد، وانحاز رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذات اليمين ثم قال: أيها الناس هلموا إلي أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله، قاله ثلاثاً، ثم احتملت الإبل بعضها فعضاً، إلا أنه قد بقي مع النبي، صلى الله عليه وسلم، نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته، منهم: أبو بكر وعمر وعلي والعباس وابنه الفضل وأبو سفيان بن الحارث وربيعة بن الحارث وأيمن ابن أم أيمن وأسامة بن زيد. قال: وكان رجل من هوازن على جلم أحمر بيده راية سوداء أمام الناس، فإذا أدرك رجلاً طعنه ثم رفع رايته لمن وراءه فاتبعوه، فحمل عليه علي فقتله.
ولما انهزم الناس تكلم رجال من أهل مكة بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، والأزلام معه. وقال كلدة بن النبل، وهو أخو صفوان بن أمية لأمه، وكان صفوان بن أمية يومئذ مشركاً: الآن بطل السحر. فقال له صفوان: اسكت فض الله فاك، فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن! وقال شيبة بن عثمان: اليوم أدرك ثأري من محمد، وكان أبوه قتل بأحد، قال: فأدرت به لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذلك.
وكان العباس مع النبي، صلى الله عليه وسلم، آخذاً بحكمة بغلته دلدل وهو عليها، وكان العباس جسيماً شديد الصوت، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: يا عباس اصرخ يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة! ففعل، فأجابوه: لبيك لبيك! فكان الرجل يريد أن يثني بعيره فلا يقدر، فيأخذ سلاحه ثم ينزل عنه ويؤم الصوت، فاجتمع على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مائة رجل فاستقبل بهم القوم وقاتلهم، فلما رأى النبي، صلى الله عليه وسلم، شدة القتال قال:
أنا النبيّ لا كذب ** أنا ابن عبد المطّلب

الآن حمي الوطيس؛ وهو أول من قالها. واقتتل الناس قتالاً شديداً، وقال النبي، صلى الله عليه وسلم، لبغلته دلدل: البدي دلدل، فوضعت بطنها على الأرض، فأخذ حفنة من تراب فرمى به في وجوههم، فكانت الهزيمة، فما رجع الناس إلا والأسارى في الحبال عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقيل: بل أقبل شيء أسود من السماء مثل البجاد حتى سقط بين القوم، فإذا نمل أسود مبثوث، فكانت الهزيمة.
ولما انهزمت هوازن قتل من ثقيف وبني مالك سبعون رجلاً، فأما الأحلاف من ثقيف فلم يقتل منهم غير رجلين لأنهم انهزموا سريعاً. وقصد بعض المشركين الطائف ومعهم مالك بن عوف، واتبعت خيل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المشركين فقتلتهم، فأدرك ربيعة بن رفيع السلمي دريد ابن الصمة ولم يعرفه لأنه كان في شجار لكبره، وأناخ بعيره فإذا هو شيخ كبير، فقال له دريد: ماذا تريد؟ قال: أقتلك. قال: ومن أنت؟ فانتسب له، ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئاً. فقال دريد: بئس ما سلحتك أمك، خذ سيفي فاضرب به، ثم ارفع عن العظام واخفض عن الدماغ فإني كذلك كنت أقتل الرجال، وإذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة، فرب يوم قد منعت فيه نساءك. فقتله. فلما أخبر أمه قالت: والله لقد أعتق أمهات لك ثلاثاً. وساتلب أبو طلحة الأنصاري يوم حنين عشرين رجلاً وحده، وقتلهم. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قتل قتيلاً فله سلبه». وقتل أبو قتادة الأنصاري قتيلاً وأجهضه القتال عن أخذ سلبه فأخذه غيره، فلما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذلك قام أبو قتادة فقال: قتلت قتيلاً وأخذ غيري سلبه. فقال الذي أخذ السلب: هو عندي فارضه مني يا رسول الله. فقال أبو بكر: لا والله لا تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله تقاسمه، فرد عليه السلب.
وكان لبعض ثقيف غلامٌ نصراني، فقتل، فبينما رجل من الأنصار يستلب قتلي ثقيف إذ كشف العبد فرآه أغزل، فصرخ بأعلى صوته: يا معشر العرب إن ثقيفاً لا تختتن. فقال له المغيرة بن شعبة: لا تقل هذا، إنما هو غلامٌ نصراني، وأراه قتلى ثقيف مختتنين.
ومر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الطريق بامرأة مقتولة، فقال: من قتلها؟ قالوا: خالد بن الوليد. فقال لبعض من معه: أدرك خالداً فقل له إن رسول الله ينهاك أن تقتل امرأة أو وليداً أو عسيفاً. والعسيف الأجير.
وكان بعض المشركين بأوطاس فأرسل إليهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبا عامر الأشعري، عم أبي موسى، فرمي أبو عامر بسهم، قيل رماه سلمة بن دريد بن الصمة، وقتل أبو موسى سلمة هذا بعمه أبي عامر، وانهزم المشركون بأوطاس، وظفر المسلمون بالغنائم والسبايا، فساقوا في السبي الشيماء ابنة الحارث بن عبد العزى، فقالت لهم: إني والله أخت صاحبكم من الرضاعة، فلم يصدقوها حتى أتوا بها النبي، صلى الله عليه وسلم. فقالت له: إني أختك. قال: وما علامة ذلك؟ قالت: عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك. فعرفها وبسط لها رداءه وأجلسها عليه خيرها فقال: إن أحببت فعندي مكرمة محببة، وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك. قالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي، ففعل.
وأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالسبايا والأموال، فجمعت إلى الجعرانة، وجعل عليها بديل بن ورقاء الخزاعي.
واستشهد من المسلمين بحنين أيمن بن أم أيمن، ويزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن عبد العزى وغيرهما.

.ذكر حصار الطائف:

لما قدم المنهزمون من ثقيف ومن انضم إليهم من غيرهم إلى الطائف أغلقوا عليهم مدينتهم واستحصروا وجمعوا ما يحتاجون إليه. فسار إليهم النبي، صلى الله عليه وسلم، فلما كان ببحرة الرغاء قبل وصوله إلى الطائف قتل بها رجلاً من بني ليث قصاصاً، كان قد قتل رجلاً من هذيل فأمر بقتله، وهو أول دم أقيد به في الإسلام، وسار إلى ثقيف فحصرهم بالطائف نيفاً وعشرين يوماً ونصب عليهم منجنيقاً أشار به سلمان الفارسي، وقاتلهم قتالاً شديداً، حتى إذا كان يوم الشدخة عند جدار الطائف، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد المحماة، فخرجوا من تحتها، فرماهم من بالطائف بالنبل فقتلوا رجالاً. فأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقطع أعناب ثقيف، فقطعت، ونزل إلى رسول الله نفر من رقيق أهل الطائف فأعتقهم، منهم أبو بكرة نفيع بن مسروح وكان للحارث بن كلدة، وإنما قيل له أبو بكرة ببكرة نزل فيها، وغيره. فلما أسلم أهل الطائف تكلمت سادات أولئك العبيد في أن يردهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الرق فقال: لا أفعل، أولئك عتقاء الله.
ثم إن خويلة بنت حكيم السلمية، وهي امرأة عثمان بن مظعون، قالت: يا رسول الله أعطني إن فتح الله عليك الطائف حلي بادية بنت غيلان أو حلي الفارغة بنت عقيل، وكانتا من أكثر النساء حلياً. فقال لها رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن كان لم يؤذن لي في ثقيف يا خويلة؟ فخرجت فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب. فدخل عليه عمر وقال: يا رسول الله ما حديث حدثتنيه خويلة أنك قد قلته؟ قال: قد قلته. قال: أفلا أؤذن بالرحيل يا رسول الله؟ قال: بلى. فأذن بالرحيل.
وقيل: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، استشار نوفل بن معاوية الدثلي في المقام عليهم. فقال: يا رسول الله ثعلبٌ في جحر إن أقمت عليه أخذته إن تركته لم يضرك، فأذن بالرحيل. فلما رجع الناس قال رجل: يا رسول الله ادع على ثقيف. قال: اللهم اهد ثقيفاً وأت بهم. فلما رأت ثقيفٌ الناس قد رحلوا عنهم نادى سعيد بن عبيد الثقفي: ألا إن الحي مقيم. فقال عيينة بن حصن: أجل والله مجدةً كراماً. فقال رجل من المسلمين: قاتلك الله يا عيينة أتمدحهم بالامتناع من رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ قال: إني والله ما جئت لأقاتل معكم ثقيفاً، ولكني أردت أن أصيب من ثقيف جارية لعلها تلد لي رجلاً، فإن ثقيفاً قوم مناكير.
واستشهد بالطائف اثنا عشر رجلاً، منهم عبد الله بن أبي أمية المخزومي، وأمه عاتكة بنت عبد المطلب، وعبد الله بن أبي بكر الصديق، رمي بسهم فمات منه بالمدينة بعد وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والسائب بن الحارث بن عدي، وغيرهم.
وهذه بادية بنت غيلان قال فيها هيت المخنث لعبد الله بن أبي أمية: إن فتح الله عيكم الطائف فسل رسول الله أن ينفلك بادية بنت غيلان فإنها هيفاء شموعٌ نجلاء، إن تكلمت تغنت، وإن قامت تثنت، وإن مشت ارتجت، وإن قعدت تبنت، تقبل بأربع وتدبر بثمان، بثغر كالأقحوان، بين رجليها كالقعب المكفأ. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: لقد علمت الصفة، ومنعه من الدخول إلى نسائه.

.ذكر قسمة غنائم حنين:

لما رحل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الطائف سار حتى نزل الجعرانة، وأتته وفود هوازن بالجعرانة وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله إنا أصلٌ وعشيرة، وقد أصابنا ما لم يخف عليك، فامنن علينا من الله عليك. وقام زهير بن صرد من بني سعد بن بكر، وهم الذين أرضعوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك، ولو أنا أرضعنا الحارث بنأبي شمر الغساني أو النعمان بن المنذر لرجونا عطفه، وأنت خير المكفولين! ثم قال:
امنن علينا رسول الله في كرمٍ ** فإنّك المرء نرجوه وندّخر

امنن على نسوةٍ قد عاقها قدرٌ ** ممزّقٌ شملها في دهرها غير

في أبيات. فخيرهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بين أبنائهم ونسائهم وبين أموالهم، فاختاروا أبناءهم ونساءهم، فقال: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، فإذا أنا صليت بالناس فقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا، فسأعطيكم وأسأل فيكم. فلما صلى الظهر فعلوا ما أمرهم به، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. وقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله. وقال الأقرع بن حابس: ما كان لي ولبني تميم فلا. وقال عيينة بن حصن: ما كان لي ولفزارة فلا. وقال عباس بن مرداس: ما كان لي ولسليم فلا. فقالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله. فقال: وهنتموني. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: من تمسك بحقه من السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول شيء نصيبه، فردوا على الناس أبناءهم ونساءهم.
وسأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن مالك بن عوف، فقيل: إنه بالطائف. فقال: أخبروه إن أتاني مسلماً رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة بعير. فأخبر مالك بذلك، فخرج من الطائف سراً ولحق برسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأسلم وحسن إسلامه، واستعمله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على قومه وعلى من أسلم من تلك القبائل التي حول الطائف، فأعطاه أهله وماله ومائة بعير. وكان يقاتل بمن أسلم معه من ثمالة وفهم وسلمة ثقيفاً، لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه، حتى ضيق عليهم.
ولما فرغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من رد سبايا هوازن ركب واتبعه الناس يقولون: يا رسول الله اقسم علينا فيئنا، حتى ألجؤه إلى شجرة، فاختطف رداؤه، فقال: ردوا علي ردائي أيها الناس، فوالله لو كان لي عدد شجر تهامة نعمٌ لقسمتها عليكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً. ثم رفع وبرة من سنام بعير وقال: ليس لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس وهو مردود عليكم. ثم أعطى المؤلفة قلوبهم، وكانوا من أشراف الناس، يتألفهم على الإسلام، فأعطى أبا سفيان وابنه معاوية، وحكيم بن حزام، والعلاء بن جارية الثقفي، والحارث بن هشام، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، ومالك بن عوف النصري، كل واحد منهم مائة بعير، وأعطى دون المائة رجالاً، منهم: مخرمة بن نوفل الزهري، وعمير بن وهب، وهشام بن عمرو، وسعيد بن يربوع، وأعطى العباس بن مرداس أباعر، فسخطها وقال:
كانت نهاباً تلافيتها ** بكرّي على المهر في الأجرع

وإيقاظي القوم أن يرقدوا ** إذا هجع النّاس لم أهجع

فأصبح نهبي ونهب العبي ** د بين عيينة والأقرع

وقد كنت في الحرب ذا تدرإٍ ** فلم أعط شيئاً ولم أمنع

إلاّ أفائل أعطيتها ** عديد قوائمها الأربع

وما كان حصنٌ ولا حابسٌ ** يفوقان مرداس في المجمع

وما كنت دون امرءٍ منهما ** ومن تضع اليوم لا يرفع

فأعطاه حتى رضي.
وقال رجل من الصحابة: يا رسول الله أعطيت عيينة والأقرع وتركت جعيل بن سراقة. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ومن يعدل إذا لم أعدل؟ فقال عمر بن الخطاب: ألا نقتله؟ فقال: دعوه، ستكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية ينظر في النصل فلا يوجد شيء، ثم في القدح فلا يوجد شيء ثم في الفوق فلا يوجد شيء سبق الفرث الدم وقيل: إن هذا القول إنما كان في مال بعث به علي من اليمن إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقسمه بين جماعة، منهم: عيينة والأقرع وزيد الخيل.
قال أبو سعيد الخدري: لما أعطى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما أعطى من تلك الغنائم في قريش وقبائل العرب ولم يعط الأنصار شيئاً وجدوا في أنفسهم حتى قال قائلهم: لقي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قومه. فأخبر سعد بن عبادة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بذلك، فقال له: فأين أنت يا سعد؟ قال: أنا من قومي. قال: فاجمع قومك لي، فجمعهم. فأتاهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: ما حديث بلغني عنكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ وفقراء فأغناكم الله بي؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم بي؟ قالوا: بلى والله يا رسول الله، ولله ورسوله المن والفضل. فقال: ألا تجيبوني؟ قالوا: بماذا نجيبك؟ فقال: والله لو شئتم لقلتم فصدقتم: أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فواسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم، أفلا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ والذي نفسي بيده لولا الهجرة لكنت أمرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار. قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً. وتفرقوا.
ثم اعتمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الجعرانة وعاد إلى المدينة، واستخلف على مكة عتاب بن أسيد، وترك معه معاذ بن جبل يفقه الناس، وحج عتاب بن أسيد بالناس، وحج الناس تلك السنة على ما كانت العرب تحج وعاد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة في ذي القعدة أو ذي الحجة.
وفيها بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عمرو بن العاص إلى جيفر وعياذ ابني الجلندى من الأزد بعمان مصدقاً، فأخذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم، وأخذ الجزية من المجوس، وهم كانوا أهل البلد، وكان العرب حولها، وقيل سنة سبع.
وفيها تزوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الكلابية، واسمها فاطمة بنت الضحاك بن سفيان، فاختارت الدنيا، وقيل: إنها استعاذت منه ففارقها. وفيها ولدت مارية إبراهيم ابن النبي، صلى الله عليه وسلم، في ذي الحجة، فدفعه إلى أم بردة بنت المنذر الأنصارية فكانت ترضعه، وزوجها البراء بن أوس الأنصاري. وكانت قابلتها سلمى مولاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأرسلت أبا رافع إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، يبشره بإبراهيم، فوهب له مملوكاً، وغار نساء النبي، صلى الله عليه وسلم، وعظم عليهن حين رزقت مارية منه ولداً.
وفيها بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كعب بن عمير إلى ذات إطلاح من الشام إلى نفر من قضاعة يدعوهم إلى الإسلام ومعه خمسة عشر رجلاً، فوصل إليهم فدعاهم إلى الاسلام، فلم يجيبوه، وكان رئيس قضاعة رجلاً يقال له سدوس، فقتلوا المسلمين ونجا عمير فتقدم إلى المدينة. وفيها بعث أيضاً عيينة بن حصن الفزاري إلى بني العنبر من تميم، فأغار عليهم وسبى منهم نساء، وكان على عائشة عتق رقبة من بني إسماعيل، فقال لها رسول الله، صلى الله عليه وسلم: هذا سبي بني العنبر يقدم علينا فنعطيك إنساناً فتعتقينه. ثم دخلت: